تربيتنا والتراث
قضايا الصبيان والمدرر من خلال الأجوبة الصغرى لعبد القادر الفاسي ( ت 1091 ه/ 1680 م)

بنعيسى النية
مقدمة:
يرجع إلى البيئة الاجتماعية الفضل في تنشئة الفرد وتوجيهه والإشراف على سلوكه وتلقينه لغة الجماعة التي ينتمي إليها وتعويده على الأخذ بما تقتضي به عاداتها وتقاليدها وعرفها وسنتها العامة، وتعتمد هذه التنشئة على: التطبع العائلي وعلى التطبع الاجتماعي.
أما في مرحلة التطبع العائلي: فيتلقى الطفل اللهجة أو اللغة، ويتعود التجاوب مع أفراد العائلة (الأب، الأم، الإخوة..)، ثم يتعلم العادات المألوفة من الأكل والشرب ومعاملة الغير.
أما التطبع الاجتماعي: فيبدأ بخروج الفرد من النطاق العائلي إلى المحيط الخارجي حيث تتفرع اتصالاته في الشبكة الاجتماعية، فيدخل إلى الكتاتيب لتعلم القران1، وفي نفس الوقت العادات الجماعية،
وقد أشار ابن خلدون 2 قبل كل تعليم: “أعلم أن تعليم الولدان القرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق به إلى القلوب من رسوخ الإيمان، وعقائد من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل من الملكات، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده”3. كما أشار إلى الفرق الموجود في التربية والتعليم بين الأوساط المغربية والأندلسية بقوله: “فأما المغاربة فيقتصرون على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعاليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب… في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة”4.
وأما بالنسبة لأهل الأندلس: “فمذهبهم تعليم القران والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم… ويخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب…”5.
وحسب الدراسة لهذه الفترة لمنطقة فاس، وحسب الشهادات المعاصرة، كانت الكتاتيب القرآنية منتشرة بالمدينة والبادية، بالنسبة لفاس أشار أبو الحسن الوزان إلى وجود أكثر من مائتي كُتاب6.
وبالنسبة للبادية فقد أشار أبو سالم الكيلاني( ت 1407ه) في رسالته إلى ما تعلمه ببلدته قبل مجيئه إلى فاس حيث قال: “قدمت من بني ورياغل مع أخي وشقيقي سيدي أحمد للحضرة الفاسية بقصد القرآن والتعليم. في شهر ربيع الأول من عام أربعة وتسعين وتسع مائة، واستوطنت بيتا في المصباحية وأنا في سن المراهقة، وكنت حفظت القران العظيم وألفية ابن مالك والكراريس بباديتي، وكنت حفظت في ذلك الوقت رسالة الشيخ ابن أبي زايد…”7.
ويظهر من كلام الكيلاني، زيادة على أن تعلمه الأول اعتمد على القرآن وألفية ابن مالك، أن علاقاته واتصالاته في البادية بفاس كانت عادية، ومن هنا يظهر دور الاتصال في تنمية الثقافة.
ومن القضايا التي ساهم فيها عبد القادر الفاسي بالإفتاء في هذا المجال: مراجعة ألواح الصبيان لتصحيح الأخطاء اللغوية والتقنية، شهادة المدرر، هدية الصبي، الأجرة بمناسبة الأعياد مع الفصل بين أعياد المسلمين وأعياد النصارى، تعليم الصبيان العقيدة التوحيد.
وكانت مرجعية أجوبته مستندة بما ورد عن أقوال عشرين فقيها، منهم الترمذي، والشيخ خليل، والنووي، وابن حجر الهيثمي، وابن عرفة، وابن رشد، وعبد الجبار بن عمر القابسي، وعون بن مالك، وأبو القاسم البرزلي، والشيخ سحنون، وابن وهب، أحمد زروق، وابن حبيب، وابن ناجي، وأبو العباس المقري، وابن الطلاع، وابن دقيق العيد. وردت هذه المسائل في أجوبته الصغرى في أربعة مسائل: (المسألة الحادية والعشرون و المسألة السادسة والخمسون)،
المسألة الحادية والعشرون:
“هل يلزم الدرار أن يجوز بصره على ألواح الصبيان؟ فيتأمل ما فيها من خطأ وصواب أم لا؟ فإن قلتم يلزم ذلك وهو الظاهر. فهل يجب عليه أن يصلح ما يقع فيها من الخلل في الرسم الاصطلاحي المنقول عن خط الصحابة، من حذف الألف وإثباتها، والواوات والتاءات كذلك، وتصوير الهمزات وعكسه، وإطلاق التاءات وتحييدها، ووصل بعض الكلام (ككيفما) وبما وصلها، كفى ما في موضع، ومن ما في موضع آخر، ونحو ذلك، أو لا يجب عليه مثل هذا؟، لأن الألواح لم تتخذ على أنها إمام، كأمهات المصاحف، وإنما هي لتسهيل حفظ المقري( أي الشيء المقروء) وتيسيره، أو يفرق بين الصبيان، فالنشأة منهم، يجوز أن يترك ذلك غير مصلح في لوحه، والحافظون منهم، الذين يحتاجون إلى تعليم تلاوة ورسم لا يجوز له أن يتركه له على ما رسمه بل يجوز له أن يصلح له على الكيفية المنقولة في ذلك عند أرباب الفن.
فإن قلنا بهذا التفريق، وسمح له في ألواح النشأة من الصبيان، فهل يسامح بترك ما كتب من الضادات شيئا؟ وبالعكس، وما يجري هذا المجرى، أو لا يجوز له ذلك وهو الظاهر؟ فإن قلتم به، فما حكم الله في الأجرة التي يأخذونها من أرباب الصبيان في رأس الشهر، وعوا شر الأعياد؟ بين لنا ذلك، فإني رأيت طلبة يتحرفون بهذه الحرفة، ولا يتقون هذا الأمر، ولا يبالون به، وما أظنه سائغا لهم ولا جائزا، فلذلك طلبت جوابكم ـ حفظكم الله ـ لأعلم حكم الله في خاصتي، وأعلمه لمن يطلبه ويسأل لمن يستبرئ لدينه وعرضه.
الجواب:
“إن نظر المعلم في ألواح الصبيان، وإصلاح ما فيها من الخطأ لازم له، أما الكبار فلا إشكال، وأما الصغار فليراضوا على ذلك وتجري ألسنتهم وكتابتهم على الصواب، لأنه إذا كبر وربي على الخطأ عسر زواله وصعب تقويمه.
وفي نوازل الإمام الحافظ أبي القاسم البرزلي8،أنه سئل أبو محمد9 عن المعلم، هل يلزمه أن ينظر في ألواح الصبيان، هل فيها خطأ في الأحرف أم لا؟ وكيف لو شرط أن لا ينظر في ذلك؟ فأجاب: يجب عليه أن ينظر في ألواحهم وإصلاح ما فيها من الخطإ، وشرطه عدم النظر خطأ لا يجوز10 انتهى.
قال ابن سحنون11: “ينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، ويلزمهم ذلك، والشكل والهجاء، والخط الحسن، وحسن القراءة بالترتيل، وأحكام الوضوء، والصلاة وفرائضها، وسننها، وصلاة الجنائز ودعاءها، وصلاة الاستسقاء، والخسوف، وقال شيخنا يعني ابن عرفة12: محل قوله عندي إعراب القرآن، وهو: تعليمه معربا لا لحن فيه، والإعراب النحوي، وحسن القرآن، أو أراد به التجويد، فذلك غير لازم في عرفنا، إلا على من شهر بتعليمه، وأما أحكام الوضوء وما بعده فواضح عدم لزومه، وكثير من المعلمين لا يقومون بذلك13 انتهى.
وأما حكم الأجرة والحذق، فلا يعرف عندي نص المختصر وغيره بالجواز، وفي أجوبة ابن رشد: مذهب مالك وجل العلماء، جواز الإجازة على تعليم القرآن، ومن لم يجزها بشرط كانت أو غيره، أو بشرط فقط محجوج بمذهب الجمهور، ولهم من الأثر: حديث الرقية14 وعموم قوله: “إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله15 وما مثله، ومن جهة القياس فهذا عمل لا يجب، فجائز أخذ الأجرة عليه، ولو كان قربة أصله كبناء المسجد وشبهه.
قال البرزلي: وفي موطأ ابن وهب: أن عبد الجبار بن عمر16 قال: كل من سألت بالمدينة لا يرى بتعليم القرآن بالأجرة بأسا، وأما ما يأخذ في عواشر الأعياد ففي نوازل البرزلي: لا بأس بالأخذ في عاشوراء وأعياد المسلمين، وأما أعياد العجم فلا يجوز أخذه، وعليه رده إلى أصحابه فإن لم يعرفهم تصدق به.
وفي المدونة عن مالك17: لا بأس أن يشترط مع أجره شيئا معلوما كل عيد فطر أو أضحى. قال القابسي18: قيل لسحنون: عطية العيد لا يقضى بها قال: لا، ولا نعرف ما هي19.
وعن ابن حبيب: لا يجب للمعلم الحكم بالذي يأخذونه من الصبيان في الأعياد، وذلك تطوع من شاء فعله وهو حسن ولك الترك، وهو تكرم من أباء الصبيان، ولم يزل مستحسنا فعله في أعياد المسلمين20.
قال القابسي: هذا من قولها إذا لم يكن في عامة الناس فاشيا، فإن فشا في العامة وصاروا يرونه واجبا، فهو كذلك، وعليه جلس المعلمون، وذلك واجب كهبة الثواب21 انتهى.
قال ابن حبيب: ويكره أن يفعل من ذلك شيء في أعياد النصارى مثل النيروز والمهرجان، ولا يحل لمن فعله، ولا لمن يقبله من المسلمين، بل هو تعظيم للشرك، وأيام أهل الكفر، وحكى بسنده عن الحسن البصري أنه كره أن يعطى المعلم في النيروز والمهرجان22.
قال المسلمون يعرفون حق معلميهم إذا جاء العيدان، ودخل رمضان أو قدم غائب من سفره أعطوه23.
قال القابسي: مثل رمضان والقدوم وعاشوراء، هو في الخاصة فلا يجب24 انتهى.
وها هنا فروع تتعلق بالحدق25 وغيرها لا يسع سردها في هذه السطور، إنما ذكرنا ما يتعلق بالسؤال عن حكم ذلك.
وأما حكم المعلمين في أنفسهم من جرح وعدالة، فإذا قاموا بالحق الواجب عليهم في ذلك، فلا بأس بما يأخذونه مما ذكر، ولا يقدح ذلك في عدالتهم.
وحكى البرزلي عن ابن عات26 قال شهد رجل عند سوار27 بن عبد الله القاضي، فقال: ما صناعتك؟ فقال: أنا مؤدب، فقال: أنا لا أجيز شهادتك، فقال: ولم؟ فقال: أنت تأخذ على القرآن أجرا، فقال له الرجل: وأنت تأخذ على القضاء أجرا، فقال: إني أكرهت على القضاء، فقال: هب أنك أكرهت على القضاء، فهل أكرهت على أخذ الأجرة؟ فقال: هلم شهادتك فأجازها.
وإن لم يقوموا بالحق وفرطوا في الآداب الواجبة عليهم وهي كثيرة جدا فلا يحل لهم ما أخذوه، وذلك قدح في عدالتهم، وغصة في ديانتهم، ومن أصول الحلال: إجازة بنصح.
قال البرزلي عن القابسي: “ومن هنا سقطت شهادة أكثر المعلمين، لأنهم غير مؤدين ما يجب عليهم إلا من عصمه الله.
وقال الشيخ زروق: ولا يفضل بعضهم على بعض في التعليم والمجلس، فإن لم يسوهم كانت جرحة في شهادته وإمامته، لأن الصبي لا يجوز قبول هديته إلا أن يفضل لهم فضلة يخاف عليها الضياع، فيجوز أن يأكلها أو يتصدق بها28 انتهى.
المسألة السادسة والخمسون29:
هذا المسجد الذي أنا فيه صغير، وعادتي أنه يوم الجمعة أؤخر تجويد ألواح طلبة يأتون عندي لذلك إلى وقت العصر إذ لا يمكنني ذلك في وقت الزوال لمكان الخطبة، وعندنا إنسان وراق سابق على دخول في ذلك المسجد، وقته للتوريق بعد الأذان الثاني للعصر، وربما فرغ المؤذن من الآذان، وأنا أجود بعض الألواح، وإذا بالوراق يشرع في توريقه قبل فراغي من تلك الألواح، والفرض أنه يسمح قراءتنا والحاضرون لتوريقه كذلك، فهل يؤمر بانتظارنا حتى نفرغ من اللوح الذي بأيدينا؟ لقوله تعالى:” وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون”30. أو لا يؤمر بذلك.
(الجواب) أن المساجد لا شك أنها للذكر والتلاوة والصلاة ومذاكرة العلم ولكن بحيث لا يجهر بعضهم على بعض، ولا يضرون بالمصلين، ويكون المعلم ممن يوثق به وبعلمه، والعلم مما يحتاج إليه من العلم الصحيح المتين، فإذا كان العلم هكذا، فلا شك أن الناس يحتاجون إليه، وهي مصلحة عامة ينتفع بها العام والخاص، فيجوز قطع القرآن لذلك، والأمر بقطعه لهذه المنفعة المتعدى نفعها. ولما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النساء وبلغ :(وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)31. قال له:”حسبك الآن وقد ذرفت عيناه”32. قال ابن حجر الهيثمي: “أخذ منه جواز أمر الغير بقطع القراءة للمصلحة، قيل: وفيه بحث لأنه لا يدل على جواز الأمر بقطع القراءة لمن يقرأ بالتماس الأمر بالقطع وليس في محله، لأن القطع إذا كان لمصلحة ساغ الأمر به لمن أمر بالقراءة، ولم يؤمر بها، وخصوص أمره بها لا يمنع غيره إذا ظهرت المصلحة في قطعها أن لا يأمر به. ومن قواعد الأصوليين التي لم يستحضرها هذا الباحث، أنه يستنبط معنى يعمه، وهو كذلك، فإن المعنى هو إناطة الأمر بالقطع بالمصلحة، اقتضى أنه لا فرق بين الأمر بالقراءة وغيره33، انتهى.